(1)
يعلم جيدًا أنه عاد إلى الوعي، لكنه لم يرِد أن يصدق أنه عاد إلى الحياة.
لم يكن في ذهنه سوى أجزاء من حلم غريب بدأ تلقائيًا يجمعها ليعيد تشكيل ذلك الحلم، ولم يتعجب من أنه كان يحلم أنه على سفينة وهناك أخرى تسبح في السماء فوقه، أو أنها كانت تكلمه ويكلمها، أو من أي ممّا قيل، فهو دائمًا ما يتحاور ويتكلم بصوت طبيعي في أحلامه، لكن هذه المرة كان صوته واضحًا لدرجة أنه لا زال يتذكره، إلا أن أكثر ما كان يتذكره من ذلك الحلم هو صوت الغناء الجميل، الذي يبدو كنحيب امرأة أكثر من غناء.
لم يشعر دكرور بأي شيء في جسده سوى حلقه الذي كان يؤلمه بشدة في مكان الندبة القديمة، كأنها استيقظت فجأة بعد أن كانت خامدة لأربعة عشر عامًا، وأوقدت معها الحمى في كامل جسده، ثم حين أراد أن يتقلب ليعود إلى النوم شعر بجسده يؤلمه، ليس ألم الكدمات أو العظام المكسورة أو حتى ألم الطعن في الصدر، لكنه كان ذلك الألم الحلو الذي تناله حين تشدّ جسدك بعد أن تستيقظ ويذهب الألم الحقيقي.
لاحظ ذلك فعقد حاجبيه في استغراب وهو لا يزال يرقد مغمضًا عينيه، ووضع يده على صدره مكان الطعنة ولم يشعر بها، فنهض يجلس في مكانه بعصبية وكشف عن صدره ليتأكد بعينه، لكنه لم يرَ شيئًا إذ كان المكان شبه مظلم بالكاد ترى فيه يدك، وبدأت أنفاسه تتسارع حين نظر إلى المكان من حوله وبدأ يفكر ويتساءل أين هو.
لم يرَ سوى مصدر الضوء الخافت الذي كان عبارة عن شبكة كبيرة غير منتظمة مثل جلد الزرافة كانت تضيء بالأصفر، وتحيط بالمكان بأكمله حتى أنها كانت تمر من تحته أيضًا، فدقق فيها النظر فلم يجدها شبكة بل كانت شقوق ضيّقة مثل أرض بور قد تصحّرت، يجري بداخلها سائل أصفر يضيء بنفسه، بين أحجار سوداء ليست ناعمة أو خشنة فعلم دكرور أخيرًا أنه ربما يكون في مغارة ما، وشعر بقليل من الارتياح من فكرة أنه لم يعُد في البحر.
ثم سمع صوت كلام فالتفت إليه ليجده ظل إنسان يمشي بالقرب منه، فعاد بسرعة يستلقي مكانه والتفت عنه إلى جانبه الآخر وأغلق عينيه بقوة، ثم تكرر الصوت وارتفع، وأصوات أخرى تردّ عليه وتضحك فعلم أن هناك أكثر من شخص وذلك مما جعله يشعر بالقلق، لكن ما جعله يشعر بالخوف والحَر رغم أن المكان ليس خانقًا بالمرة؛ هو أنه ميّز أن الأصوات تتكلم بالإنجليزية، تلك اللغة التي يميّزها ولا يعرف منها شيئًا سوى اسمها.
مكث دكرور على حاله لا يفتح عينيه وبالكاد يتنفس، قبل أن يشعر أن النور قد اشتدّ ففتح عينه ليجد المكان قد أضاء أكثر بالفعل، وشقوق النور صارت أوسع حتى أنه رآها وهي تتسع ببطء شديد يكاد لا يُلحَظ، وبعد أن أصبح الضوء يعم المكان وجد دكرور رجلًا ممددًا بجانبه مباشرةً.
جفل على الفور وزاد قلقه وتوتّره وزادت حدة أنفاسه، ثم عاد يفتح نصف عينه فلاحظ أن الرجل ينام على صدره بطريقة غريبة جدًا وغير مريحة بالمرة، فظل دكرور يتأمله حتى لاحظ والنور الأصفر يتوهج من تحته؛ دمًا يسيل من تحته فتوقع أنه مصاب، حينها استجمع شجاعته ووكزه برفق فلم يُبدِ الرجل أي ردة فعل، فوضع يده على ظهره ليتأكد من شيء لا يريد أن يكون صحيحًا، لكنه بالفعل، وجده ميتًا.
قام يقف بسرعة وابتعد بعصبية عن الجثة من غير أن يصدر منه إلا صوت أنفاسه القوي، ولم يبتعد كثيرًا حتى هوت يد من وراءه على كتفه خلعت قلبه من صدره، فالتفت ليجده رجلًا يقترب منه بهدوء رافعًا يديه علامة الأمان وحسن النية بابتسامة سمجة، لا يعبأ إن كان قد أوقف قلبه جراء فعلته.
كان رجلًا ربما في عقده الرابع طويل وذو منكبين أصغر من باقي جسده، أصهب تنم ابتسامته عن أسنان صفراء معوجة، ومعه شابًّا آخر نحيل وطويل وأسود البشرة، ورجل يزحف الشيب على رأسه وعلى صدغيه رماديًا مثل عينيه، ولم تكن ملامحه ذات الخمسين عامًا تليق على جسده الذي يبدو لشابٍّ فَتِيّ يافع، ثم انضم إليهم رجل آخر ضخم البنية من قدميه حتى رأسه، ومعه طفل صغير أحمر البشرة بدا كأنه ابنه، يصل طوله عند ركبته، ولما تكلم ذلك الأخير عرف دكرور من صوته الحاد الصغير أنه قزم وليس طفل.
وقف خمستهم أمام دكرور يكلمونه ويكلمون بعضهم بلغتهم، فتقدّمهم الأصهب وتوجه إلى دكرور وهو لا زال رافعًا يديه أمامه ويكلّمه بهدوء ووداعة ويلتفت إلى رفاقه ويضحك، وأخذ دكرور يتراجع بدوره وتحسس خصره تلقائيًا بحثًا عن سكينه ولم يجده، فكر أنه لم يخشَ أحدًا في حياته هكذا ولا داعي لأن يفعل الآن.
ظل الرجل يتقدّم ويتكلم ويضحك ويشير إلى صدره، ودكرور يتراجع أكثر حتى ظن أنه سيصطدم بجدارٍ ما، ثم نظر وراء الرجل فلم يجد أصدقاءه، وقبل ان يلتفت ليبحث عنهم أمسكته يد من كتفه وأخرى من ساقه تزامنًا مع صوت "بوووم!!"، فتراجع بعصبية وفزع لا يقارن بفزعه حين وجدهم الأسود الضخم وصاحبه القزم.
أخذوا جميعًا يضحكون خاصةً الأصهب، ونظر دكرور إلى الجدران ودقق النظر فوجد أن ليس هناك جدران، بل المكان كله كان عبارة عن أسطوانة طويلة تتسع عند أحد أطرافها وتضيق كلما اقتربت من الطرف الآخر، وهو يقف عند الطرف الواسع.
شعر بالغثيان والصداع وترنّح وأراد أن يترك جسده ليسقط، لكن حمله الرجل المسنّ رماديّ الشعر وأجلسه أمامه برفق، وأخذ يضرب على خده كي لا يدعه يغيب عن الوعي، ثم تراجع عندما تقيأ دكرور ما تبقى في بطنه، ثم قال شيئًا جعل القزم يهرول إلى الطرف الضيق من المغارة، فتأكد دكرور مما لم يُرِد عقله أن يصدقه أو حتى يفكر فيه؛ إذ سار القزم على الجدار ومنه إلى السقف ليصل إلى الطرف الآخر ليوقظ أحدًا كان نائمًا هناك على السقف.
أشار دكرور بذهول إلى القزم وتتبعه بسبابته، فانحنى الرجل لمستواه يحجب عنه الرؤية، وفرقع له بأصابعه ليجذب انتباهه إليه وهو ما زال يضحك هو وأصدقاءه.
ثم كفّ عن الضحك وقال لهم شيئًا بنبرة آمرة جعلتهم يكفّون أيضًا، وأشار بيديه إلى صدره وقال "موريس!"، ففكر دكرور "جميل! إنه يعرفني بنفسه" ورغم أنه قد فهم ذلك إلا أنه لم يُبدِ ذلك، فبدت الحيرة على الرجل ثم أشار إلى صاحبه الأسود الضخم وقال "مافي!"، ثم إلى الأسود النحيل "سامبار!"، ثم "سيجورد" الأصهب، وعاد يشير إلى نفسه أخيرًا "موريس!"، ثم أشار إلى دكرور بكلتي يديه من دون أن يقول شيئًا، فعلم أنه ينتظر منه أن يخبره باسمه.
لم يحرّك دكرور ساكنًا، وظل يرمقه بثبات بنظرة يغلب عليها الخوف الذي يجاهد لإخفائه، لا يعلم لماذا يشعر بهذا القدر من الخوف من هؤلاء الرجال وخاصةً هذا العجوز، ربما لأنه لم يرَ هذه الأصناف من الرجال في مكان واحد من قبل، أو لأنهم يتكلمون بالإنجليزية ومن الممكن أنهم إنجليز أسروه لسبب ما، لكن معظمهم لا يبدون إنجليزًا، كما أنهم يعيشون في تلك المغارة العجيبة التي تنافي كل ما هو طبيعي، كل هذا وضحكهم المتكرر الذي لم يبدُ مرِحًا بقدر ما بدا مرعبًا.
فرك موريس جبينه بيده في حيرة ويأس وقال شيئًا وهو ينظر إلى السقف كأنه يكلمه فضحك رفاقه، حينها كاد دكرور أن يهمس إليه باسمه غير عابئًا بكبريائه الذي تبدّد كله، أو باللعبة التي يلعبها منذ أربعة عشر عامًا، لكنه انتهى عندما عاد القزم بصحبة خمس رجال آخرين.
★★★
زادت حيرة دكرور عندما زاد عدد الرجال واختلفت أشكالهم وتباينت أعمارهم، لكنه تمالك نفسه واستجمع شجاعته وتأهب وهو على استعداد لارتكاب فاحشة في حق أول من يقترب، ثم تراجع إلى جدار وراءه كان الجدار القائم الوحيد في المكان؛ وألصق به ظهره مواجهًا لعشرة رجال، أخذوا يتكلمون ويتصايحون ويضحكون ويشيرون إلى دكرور من حين لآخر كأنهم يتشاورون في أمره.
لكنهم كانوا يسكتون ويستمعون لواحد منهم حين يتكلم فبدا أنه ذو شأن أو صاحب أمر بينهم، على الرغم من أنه كان رجلًا يافعًا ربما أكبر من دكرور قليلًا يبدو في آخر عقده الثالث، إلا عينيه كانتا كأنهما ولِدا قبله بسنوات، يتوسطهما حدقتان يلتمعان بلون أصفر فاتح كجذوتين من لهب، لا يليق بلونه الأسمر وشعره الأسود وملامح وجهه الغليظة.
وبعد طول جدال اقترب هذا الرجل من دكرور رافعًا يديه علامة حسن النية التي أصبحت مبتذلة بعض الشيء، وعرّف بنفسه بالطريقة المعتادة "بوهاردي"، حينها فكّر دكرور أنهم إن كانوا يريدون به سوءًا لما كانوا عرّفوه بأسمائهم، وشعر ببعض الامتنان لهم بأنه لا يزال على قيد الحياة، وقرر أخيرًا أن يكافئهم بأن أومأ لبوهاردي أن فهمت.
اعتلت ابتسامة وجه بوهاردي على الفور، وصفّق الرجال وحيّوا بعضهم في سعادة، ثم التفت إليهم بوهاردي وألقى إليهم ما بدا كدعابةٍ ما فضحكوا جميعًا حتى هو، ثم عاد إلى دكرور ومدّ إليه يد المصافحة.
ونظر دكرور إليه وإلى يده الممتدة أمامه في تردد وعَجَب، فهو لا يذكر متى صافحه أحد وهو يبتسم أو متى رحّب به أحد في أي مكان، وبدأ يفكر "من هؤلاء؟ ولمَ هذا الترحاب؟ كأنهم كانوا في انتظاري"، ثم قرر أن يكمل ما بدأ فأخذ بيد بوهاردي وتصافحا، وقبل أن يسحب بوهاردي يده؛ جذبها دكرور إليه وأجبره على الاقتراب فبدا أنه سيعانقه، لكنه همس في أذنه:
- دكرور!
بدت الحيرة على بوهاردي في أول الأمر فكرّر الكلمة كأنه يسألها، ثم كرّرها ثانيًا يسأل دكرور وهو يشير إليه، فأومأ له دكرور بابتسامة حائرة، وحينها التفت بوهاردي إلى رجاله وأخبرهم بما سمع بأن صاح في حماس:
- دكرووور!
فردّها عليه رجاله بنفس الحماس وأخذوا يكررونها كأنهم يشجعونه، وهو يشاهدهم في تعجب لا يخفي إعجابًا، ويتساءل "من ذا الذي يسعد لمجرد أنك أخبرته باسمك؟"، وشعر بأُلفةٍ لم يكن يشعر بها في بيته حتى، وأخيرًا حيّاه بوهاردي بانحناءة وابتسامة ثم انصرف عنهم وهو يبدو مهمومًا أو حزينًا، تاركًا دكرور في حيرته.
وبدأ الرجال يصافحون دكرور ببشاشة الواحد تلو الآخر ويعرفوه بأنفسهم، يعرف خمسة منهم بالفعل "مافي" الضخم، و"موريس" العجوز، ثم "سيجورد" أصهب الشعر، و"سامبار" النحيل، و"أوساي" القزم الذي كان شعره عبارة عن قرص أسود ناعم أعلى رأسه، يخرج من منتصفه ضفيرة قصيرة، وتعجب دكرور كثيرًا من السعادة التي تبدو على هؤلاء الرجال وتساءل "هل انضممت إلى طائفة ما لتوي؟ يجب أن يعلموا أني لا أخطط لأن أمكث طويلًا، لكن أين المخرج من هنا؟".
وممن لا يعرفهم كان "دييجو" الذي كان يحمل وشومًا تزحف من تحت قميصه على رقبته ويضع قطعة معدنية كالحلَق في أذن واحدة، ثم "رالف" وكان رجلًا مهندمًا ويبدو عليه الوقار، ثم "تاندي" الذي كان ثالث الثلاثة سود البشرة وكان عجوزًا هزيلًا، وآخرهم وربما أصغرهم سنًا "عَمّار".
قالها بلهجة عربية سليمة، فتسمّر دكرور في مكانه وأحكم قبضته على يده أكثر، وأخذ يتفرس في ملامحة لثانية قبل أن يشك أنه من الممكن أن يكون عربيّا، إذ كان فتًى يافعًا أصغر من دكرور، أسمر بحُمرة وشعره أفتح من الأسود قليلًا، احتار دكرور في تمييز إن كان عربيًا أم لا من مظهره ومن لغته، فقرر بعد أن بدا على عمار الاستغراب وأراد أن يسحب يده؛ أن يسأله، فهمس بصوت لم يحتَج لأن يقربه منه كي يسمعه:
- أنت عربيّ؟
قال عمار بابتسامه:
- نعم...
ثم اختفت ابتسامته فجأة كأنه انتبه للسؤال فجأة، ودقق النظر في دكرور وقال شيئًا بلغته قبل أن يقول:
- ...أعني أنت عربيّ أيضًا؟!!
أومأ له دكرور بعصبية وعلى وجهه ابتسامة مُطمَئنة، ولوهلة شعر بالاطمئنان وأن الأمور ستكون على ما يرام، قبل أن يسمع صوتًا يعيد إليه خوفه من هؤلاء الرجال وتلك المغارة، وكل شيء كان قد خاف منه في حياته؛ إذ كان صوت الصفير الذي يشبه النحيب من حلمه الأخير، ففكر "هل لا زلت أحلم؟"، أو ربما تمنى ذلك.
★★★
عاد الخوف يستبد به أسرع وأقوى من قبل، فاقشعرّ جسده واضطربت دقات قلبه وتسارعت أنفاسه حتى أصيب بالدوّار، فجلس يضم ساقيه إلى صدره يحاول أن يسد أذنيه بيديه لكن الصوت كان أقوى وأعمق من أن يمنعه، ثم أراد أن يبكي حين لم يذهب الصوت لكنه تمالك نفسه أمام هؤلاء الغرباء وإن لم يُخفِ مدى ذعره.
كان نفس الصوت الرخيم العميق الحزين الذي يبعث الرجفة في القلوب والقشعريرة في الجسد، وفي حين أنه كان صادرًا عن السفينة في الحلم؛ إلا أنه الآن بدا وكأنه صادرًا عن المغارة بأكملها وليس له مصدر معلوم، وذلك ما جعله مخيفًا أكثر شيء.
أفاق دكرور من نوبة هلعه على صوت الفتى عمار وهو يربّت عليه ويطمئنه من دون أن يخفي ضحكاته الساخرة، ثم وجّه الكلام للرجال بلغتهم فضحكوا وهتفوا وعاد يقول لدكرور:
- أرأيت!.. إنه يرحب بكَ مثلنا، فقط اهدأ..
أراد عمار أن ينهض لكن استوقفه دكرور بأن أمسكه من ذراعه بعصبية وأجبره على الانحناء حتى بدا أنه سيضربه لكنه همس إليه:
- أين أنا؟
التفت عمار عنه باستهزاء ولا مبالاة مستفزة إلى الرجال وكلمهم فيما بدا كأنه يترجم لهم ما قال، فضحك بعضهم وازداد غضب دكرور وأمسك بتلابيبه وأجبره على الوقوف معه، ولاحظ سكينًا معلقًا من خصره لكن لم يعبأ به، وعاد يسأل بعصبية وغضب:
- قلت أين أنا!
كان بعض الرجال يتلوّى من شدة الضحك، والبعض الآخر يبدو قلقًا، وعمار يبدو عليه أنه سئم من المزاح حين قال:
- يجب أن تهدأ أولًا وسأخبرك بكل شيء...
فتركه دكرور بعد أن سحب سكينه بهدوء دون أن يشعر، وبدت الحيرة على عمار فنظر إلى موريس دون أن يتكلم، فأخبره بشيء وصفق بيديه مرتين، وقال شيئًا لرجاله جعلهم يتفرقون، فقال عمار بسأم كأنه مغلوبًا على أمره:
- حسنًا.. دعنا نجلس أولًا
تقدم عمار الطريق وتبعه دكرور، ولم يلحظ أنه قد دارَ إلى الجهة الأخرى من المكان؛ إلا بعد أن جلس عمار أولًا ودعا دكرور ليجلس أمامه، ثم عاد يقف بسرعة حين رأى أحد الرجال يقف فوقه على السقف كالخفافيش، فرفع عمار رأسه هو الآخر ونادى وهو يلوّح بيده:
- دييجو!
رفع دييجو رأسه وبادله التحية وضحك الاثنان ثم انصرف دييجو إلى سبيله، وعاد دكرور يجلس بعد أن بدأ يشعر بالدوّار مجددًا، ثم قال عمار:
- لا تقلق، لن يقع علينا أحد.. تبًا! لم أتكلم العربية منذ.. منذ سنوات
وأضاف:
- انظر!.. هنا ليس هناك جدران أو سقف كل ما حولك أرض يمكن المشي عليها، عدا ذلك الجدار هناك...
وأشار إلى الجدار الذي كانوا يقفون عنده وأردف:
- لا أنصحك بمحاولة المشي عليه، المهم.. أيًّا كان ما يشدنا لأسفل فهو في كل مكان هنا
مرر دكرور أصابعه بين شعره في حيرة وتعب وزاد الاضطراب في معدته، ثم انحنى إلى الأمام وهمس:
- وأين هنا؟
- أمم! لا أظن أنك مستعد لأن تعرف، لكن دعنا نتعرف أولًا، لم تقل من أين أنت..
رغم شعوره بالاستفزاز الشديد إلا أن دكرور قرر أن يجاريه فأجاب:
- من مصر
- حقًا!! لطالما أردت الذهاب إلى هناك، على كل حال.. وأنا من المغرب، أه! لا تتخيل مدى سعادتي أنك هنا.. فقد كنت الوحيد العربي هنا لمدة طويلة جدًا، بل كنتُ الوحيد العربي على الإطلاق
لم يعبأ دكرور بأي مما قال وظل يحدق فيه بثبات ثم همس:
- فقط أخبرني أين نحن لكي أرحل
- تبًا! بالطبع تريد أن ترحل، كم أن هذا يفطر قلبي! حسنًا فلنبدأ من البداية، لقد كنتَ على سفينة في البحر صحيح؟!...
أومأ دكرور فأردف عمار:
- وقبلها كنتَ تهرب من شيءٍ ما؟!
ثم أضاف دون أن يتلقى أي إجابة أو إماءة:
- ثم جاءت العاصفة؟!... ثم غرِقتَ؟! أليس كل ذلك صحيح؟
ولم يدعه عمار يستوعب الكلام حتى، ولم ينتظره حتى يجيب فقال بسأم:
- بربّك! ما هي عِلّتك؟ هل أنت أبكم حقًا أم تدّعي ذلك؟!
استعر دكرور غضبًا بسرعة وهو يرمق عمار في ذهول، إذ لم يكن أحد ليجرؤ على قول ذلك من قبل، ولم يكن ذلك فقط ما جعله يغضب، إذ عاد صوت النحيب الذي يصم الأذن، وربما لمس عمار الغضب والخوف في عين دكرور فقال بهدوء وحذر:
- اهدأ! إنه لا شيء، فقط اهدأ...
ولم ينتظر دكرور أكثر، سحب السكين ووجهه إلى عمار الذي أراد أن يسحب سكينه لكنه وجده هو نفسه الذي في يد دكرور، فقال بدهشة شيئًا بلغته، ثم رفع يديه مستسلمًا وهو لا يزال يجلس في مكانه، حتى همس دكرور بعصبية:
- أين المخرج من هنا؟
أشار عمار بإصبع واحد ناحية الجدار الذي عند أول المغارة، ولم يجد دكرور فيه شيئًا يدل على أنه مخرج، لم يجد سوى الجثة التي استيقظ بجانبها على حالها، وحين لاحظ بقية الرجال يهرعون إليه وبعضهم يحمل أسلحة وحِراب؛ أجبر عمار على الوقوف ووقف هو وراءه وهو يشد شعره ليرفع رأسه ويضع السكين على رقبته، مواجهًا للرجال الغاضبين الذين يوجّهون حِرابهم نحوه دون أن يهاجموا.
وبدأوا يتكلمون بعصبية ويكلمون عمار بلغتهم، بدا عمار أنه يحاول تهدئتهم وإن لم ينجح في تهدئة دكرور، ثم علا صوت الغناء أكثر وأخذ يحتدّ ويغلظ، فضغط دكرور بالسكين أكثر حتى أدمى رقبته وهمس في أذنه مباشرةً:
- ما هذا الصوت؟
- حسنًا حسنًا!!! تريد أن تعرف أين أنتَ! حسنًا لا بأس.. كنتُ أريد أن أخبرك بطريقة أسهل، لكنكَ الآن... أنتَ في جوف حوت!
- ماذا قلتَ؟
ثم لم تكن هناك فرصة ليفكر بعدها، ارتجت رأسه فجأة فسقط أرضًا وأظلمت الدنيا ثم عادت تتوهج وتظلم، وصوت الصفير لا ينقطع ولا يخفت، وبقيَ في أذنه ثم تحول إلى غناء بعد أن غاب عن الوعي، لم يكن غناء بالكلمات أو بالموسيقى، بل غناء جميل ساحر فحسب.
★★★
(2)
شعر براحة غريبة ليس فقط في رأسه بعد أن ذهب عنها الصداع، لكن شعر أيضًا بالراحة في نفسه وفي المحيط من حوله، فكان يسبح بهدوء ووقار في ظلمة أعماق المحيط، لا يعبأ بشيء كملك حقًّا، لكنه ملك من دون حاشية أو نسل يمرر إليه ملكه، فقد كان حوتًا وحيدًا في ذلك المحيط الواحد.
يرى كثيرًا من الحيتان المختلفة يعرف أنواعها كلها، لكن لا يعرف لها من أسماء سوى بعض الأنواع التي أخبره عنها الرجال الذين يعيشون في جوفه، فالبشر وحدهم من لديهم تلك القدرة الفريدة على إعطاء الأشياء أسمائها، يفعلون ذلك طوال الوقت، بحاجة وبدون حاجة، فلكل شيء عندهم اسم، ولكل اسم معنى، ولكل معنى شعور يصاحبه.
يسمون نوعه من الحيتان "الحيتان الرمادية"، ولم يكتفوا بذلك، فسَمّوه هو "أطلس"، فهم يعتقدون أن إعطاءه اسمًا كفيل بأن يجعله إنسان.
كان رجاله الذين في جوفه هم الأنيس الوحيد لوحدته، وفي حين أنه دائمًا ما يكون أحدهم نائمًا، فلم يكف أطلس عن الحديث معهم أثناء ذلك، وفي غير النوم كان يشعر بهم ويسمعهم في جوفه ويدرك ما يحدث فيه، ليس إدراكًا فحسب بل كأنه يرى ما يحدث رأيَ العين كأن لديه عين ثالثة في داخل جوفه، يعشق رؤيتهم يلعبون ويتقاتلون ويمرحون، فكان ذلك ما يؤنس وحدته في ظلمات المحيط الذي ليس له حدود.
لكن رغم ذلك فلا يزال هناك شيء ناقص، فهو يحتاج لأن يتفاعل مع بني جنسه الذين لا يجدهم، يُقال أن الحيتان الرمادية قد أُبيدت على يد البشر ولم يعد لها وجود، لكن أطلس وهو حوت رمادي ذو جوف؛ لا يزال يشعر بهم في مكان ما بعيد، ففي بعض الأحيان ينتابه شعور بأنه قد انتقل فجأة إلى مكان آخر من العالم، يعلم أن ذلك حوت رمادي آخَر، لكنه بعيد جدًا فلا يقدر على الشعور تجاهه بأكثر من ذلك، فلا يقدر على تحريكه أو جعله يأتيه مثلما يرى حيتان أخرى تفعل، ثم سرعان ما يتلاشى ذلك الشعور قبل أن يدركه.
لكن هذه المرة كان الشعور قويًّا لدرجة أن أطلس رأى مكان آخر غير الذي هو فيه، رأى بعيون حوت آخر مكان لم يرَه قبلًا ولا يعرف أين هو، فركّز تفكيره ليراه بوضوح أكبر، فتأكد أنه ليس مكان يعرفه.
ثم ركّز تفكيره أكثر ليحاول التحكم في ذلك الحوت لكن دون جدوى، فأخذ يسبح في دائرة لعله يقترب منه، وبالفعل ازداد شعوره به عند نقطة من تلك الدائرة، فسبح تجاهها بسرعة لكنه علم أنه ليس الطريق الصحيح إذ كانت رؤية ما يرى الحوت الآخر تتشوش وشعوره به يتلاشى، فعاد أدراجه يسبح في الاتجاه المعاكس وذلك أيضًا كان الاتجاه الخاطئ، وكان آخر ما رأى أطلس مما يرى ذلك الحوت؛ هو حوت آخَر.
توقف فجأة عن السباحة مذهولًا، لا يصدق أنه رأى حوت من نوعه، كان قد نسيَ شكل أمه التي قُتلَت منذ زمن بعيد، وبالطبع لم يرَ نفسه من قبل، ورغم ذلك فإنه متأكد من أن ذلك الحوت هو حوت رمادي يشبهه، لكن أين هو؟.
عاد أطلس يسبح وحيدًا خائبًا، لكن أيضًا مندهشًا بأن تأكد من أنه ليس وحده، وعزم أمره لأن يكثف جهوده في البحث أكثر مما كان يفعل، لكنه انشغل عن كل ذلك وعن الحيتان عندما شعر بالاضطراب في جوفه، وعلم على الفور أن أحدهم في خطر بسبب الرجل المزعج الذي التقمه حديثًا، فأصدر أطلس أغنية سمعها المستيقظون مجرد صوت يصمّ آذانهم، بينما سمعه النائمون يقول:
- أوقفوا ذلك المجنون قبل أن يؤذي عمار!
فقال بوهاردي:
- أترى يا موريس! أخبرتك ألا نتركه وحده مع عمار
وأضاف أوساي:
- أه إن عمار يستفزنا نحن لكي نقتله، فما بالك بذلك الرجل؟! صحيح يا أطلس.. أتدري ما عِلّته؟
- لا أعلم، إنه فقط لا يتكلّم
فقال موريس:
- إذًا هو أبكم؟
ورَد بوهاردي:
- ربما، لكنه يسمع ويهمس
وقال أطلس:
- أبكم؟!! إذًا هذه عِلّة فيه؟ ربما يمكن شفاؤه!
أجاب موريس:
- ممكن.. لكن ممكن أيضًا أنه وُلِد بها
- حسنًا لا يهم الآن، ربما سأعرف منه حين ينام، والآن اذهبوا وتولوا أمره
وأجبرهم أطلس على الاستيقاظ، وانتظر قليلًا حتى نام الرجل بعد أن أفقدوه وعيه، وقرر ألا يضيّق عليه نومه فلا يعنفه أو يشتد عليه، ليس فقط لأنه جديد ولا يزال لا يعلم أي شيء، بل أيضًا لأن أطلس يشعر بالسعادة.
★★★
لم يعبأ بعودته إلى السفينة الغامضة التي كانت تبحر دون طاقم أو رياح أو وجهة، ولم يكن يعبأ بأي من ذلك أيضًا، ومن حين لآخر كان يسمع صوت النحيب صادرًا عن السفينة نفسها، ومن حين لآخر يسمع ذلك الصوت الحاد السريع الذي يشبه سكب الماء على الحطب المشتعل.
استيقظ دكرور ولم يحاول استعادة الحلم، بل ولم يحاول الحركة حتى، ليجد رأسه يؤلمه بشدة مما جعله يعود إلى عالم النوم ومنه إلى عالم الأحلام وإلى السفينة الغامضة مرة أخرى، وهذه المرة كان عليها ثلاثة رجال من المغارة، كانوا القزم والرجل الهزيل الأسود والرجل المتأنق، كان دكرور يكلمهم وشعر بالألفة تجاههم كما لو كانوا أصدقاءه منذ الصغر، لم يكونوا يتكلمون بلغتهم ولا حتى بالعربية لكنه كان يفهمهم ويردّ عليهم ويضحك على مزاحهم.
استيقظ دكرور مرة أخرى دون أن يعود إلى الوعي، ومرة أخرى؛ لم يكلف عقله عناء استعادة الحلم، ولم يكلف جسده عناء محاولة الحركة، فلم يكن مانع من العودة إلى النوم وإلى السفينة ليجدها عادت خالية مرة أخرى، ووجد نفسه يكلم أحدًا ما كأنهما يتحاوران منذ مدة...
- إذًا منذ متى وأنت فاقد النطق؟
- منذ أن كنتُ في الثانية عشر، أحد الحلاقين أو بالأحرى أحد الجزارين انتزع مسمارًا من حلقي وكان الثمن صوتي
- لكنه أنقذ حياتك، يجب أن تكون ممتنًا أكثر من ذلك
- أه نعم!، أنا في غاية الامتنان، لقد أخذ صوتي وأعطاني حياتي، يا لها من تجارة رابحة!
- يجب أن تعلم أن صوتك ثمنٍ بخس مقابل حياتك، كما أنه نادرًا ما يحصل الإنسان على كل شيء في الحياة
- ويا لها من حياة حصلتُ عليها، كادت أن تنتهي بكل صخبها لو كنتُ غرقت كما كان من المفترض
- أعذرني إذ لم يكن من المفترض أن أتركك تغرق
- لا تنتظر مني أن أمتنّ لكَ.. من أنتَ على كل حال؟
وشعر بنشوة كادت أن توقظه أنه أخيرًا قد سأل السؤال الصحيح، حتى جاءته الإجابة:
- أنا الحوت الذي أنت في بطنه
- أه صحيح! كدتُ أن أنسى، وماذا عن باقي الرجال؟ أعني من يكونون؟ يبدون غرباء جدًا
- إنهم رجال صالحون.. لا تؤذِهم، أنا نفسي لا أتهاون في ذلك، لقد عفونا عنكَ هذه المرة فقط
شعر دكرور بقليل من تأنيب الضمير لما فعل، ثم نظر إلى السفينة من حوله وقال:
- ولم لا تبدو كحوت؟
- أنت في حلم
- حقًا!.. لا يبدو هذا كحلم أيضًا
- إنها الطريقة الوحيدة التي بإمكاني التحدث بها إليك
- ربما هي الطريقة الوحيدة التي بإمكاني أنا التحدث بها
- صحيح! لقد تركتُ لك هدية بمناسبة حياتك الجديدة
وشعر دكرور بالامتنان الشديد وسعادة لا توصف رغم أنه لا يعلم عمّا يتحدث ثم قال:
- أريد أن أراكَ.. هل أنتَ موجود أصلًا؟
- سأحرص على أن تراني في أقرب وقت، لكن يجب أن تستيقظ أولًا
مالت السفينة فترنّح دكرور وأثناء سقوطه على جانبه؛ دارت الدنيا من حوله، وارتمى على جانبه لا يقوى على الحركة والصداع يهشم رأسه ليستحيل العالم من حوله إلى عالم آخر، إذ كان الواقع بتفاصيله وقتامته ورائحته، كان الظلام الكئيب الذي تصحو في منتصف الليل لتجده يلف الهواء من حولك، ويلف صدرك من حول قلبك.
وهذه المرة كان يقظًا كفاية لأن يفكر أين هو، واستغرق بعض الوقت قبل أن يدرك ذلك، فكان هذا كافيًا لئلا يعود إلى النوم، وأن يتذكر ما حدث قبل أن يغشى عليه، وجعله يتذكر الألم الذي يهشم مؤخرة رأسه، فأراد أن يتحسسها إن كانت تنزف لكن كانت يده مقيدة خلف ظهره.
★★★
بجانب الصداع الذي يطرق إزميلًا على عينه؛ أخذت الأفكار تتصارع داخل رأسه، فهو لا يريد أن ينسى الحلم كما يفعل دائمًا، وفي نفس الوقت كونه مقيدًا مثل البعير عند الذبح يمنعه من التفكير في أي شيء آخر، فظل يخبر نفسه "الحلم لا تنسَ الحلم والحوت كان يخبرك بشيء، بل أشياء، اللعنة! أنا في بطن حوت حقًا!!".
أخذ يتلوى مثل سمكة وقعت في شبكة، وأنفاسه تتسارع بشدة وعضلات فخذه تكاد أن تتمزق من طول شدها.
- غبي!
جاء الصوت من ورائه فالتفت ليجده الفتى العربي الذي نسيَ اسمه؛ جالسًا بجانبه، وأردف:
- إن كنتَ انتظرتَ قليلًا كنتُ سأخبرك كل شيء، وما كان ليحدث أيًا من هذا...
همس دكرور بوهن وهو بالكاد يفتح عينيه من شدة الألم في رأسه:
- فُكّ قيدي!
فاقترب الفتى أكثر وقال:
- ماذا قلتَ؟
- تبًا لكَ! قلتُ فكّ قيدي أيها الوغد!
فقال الفتى بلا مبالاة:
- كنتُ أريد ذلك فعلًا، لكن بوهاردي قال أنه يجب أن تتعلم القليل من الأدب.. أعتقد أنه محق!
أسكن دكرور حركته وأغمض عينه ووضع جبينه على الأرض وقد يئس من الحركة وما تجلبه من ألم، ثم تذكر اسم الفتى "عمار!" وتذكر أن آخر ما قاله هو أنهم في بطن حوت، ورغم أنه لا يزال يشك في الأمر برمّته إلا أن مجرد التفكير فيه يجعله يشعر بالمغص.
ثم عاد عمار يقول:
- إذًا فلنكمل ما بدأنا.. أعتقد أن آخر ما قلته هو أنك في بطن حوت صحيح؟
وظل دكرور لا يحرك ساكنًا وجبهته تقبل الأرض، ولما لم يعطِه إجابة أكمل عمار الكلام:
- حسنًا أيها السيد المحترم.. أرحب بكَ معنا في جوف الحوت أطلس! والذي يبلغ قرابة المائة وثلاثين قدمًا طولًا...
فنظر دكرور إليه في محاولة أخيرة يائسة ليتبين إن كان جادًا أم يمزح، فأصابته خيبة الأمل حين وجده جادًا إلى حد كبير، وأردف:
- ما حدث لك حدث لنا جميعًا، فجميعنا هنا للسبب نفسه.. هو لأننا هربنا إلى البحر، واعلم أنه ليس من شأن أي أحد أن يعرف مما كنتَ تهرب، لا تخبر أحد بذلك حتى وإن سألك.. مفهوم؟
ثم أضاف:
- ثم عندما تركب السفينة وتبحر بكَ وتظن أنك نجوت؛ تأتي عاصفة مهمتها الوحيدة أن تغرقكَ أنتَ بالذات، من دون أن تهتم إن أغرَقَت السفينة كلها، ثم تسلمكَ لأطلس الذي يكون في انتظارك تحت السفينة، يجب أن تعلم أنك محظوظ لأن أطلس هو من التقمك وليس حوت آخر
ابتلع دكرور الكلام رغمًا عنه، وقرر ألا يفكر في الأمر لأبعد مما قيل فيه، ولا يسأل أكثر مما قد عرف بالفعل، ثم لاحظ سكوت عمار المفاجئ ووجده يبدو مترددًا وحائرًا في أمره، ثم ازدرد ريقه قبل أن يقول:
- لقد قال موريس أن أخبرك تحسبًا لأي طارئ... أتعرف سفن صيد الحيتان؟
ثم أجاب نفسه:
- إنها سفن يصطادون بها الحيتان ويسلخونها ويقطعون شحمها ويغلونه للحصول على الزيت، وكل ذلك في عرض المحيط، يصادف أطلس تلك السفن من حين لآخر، وحينها يعلمنا كي نخرج ونصعد إلى تلك السفينة و... ونقتل من عليها ثم نغرقها...
- مهلًا! هل تخرجون؟! كيف تخرجون؟!
- سترى قريبًا.. لم يمر كثيرًا منذ آخر مرة، ويا لها من مرّة!
اشتد النور في المكان شيئًا فشيء وشعر دكرور بشقوق النور من تحته وهي تتسع، فقال عمار:
- آه! حين يضيء المكان يعني ذلك أننا قرب السطح، ويمكن أن يدق ناقوس الخطر في أي لحظة...
سكت عمار فجأة، وبعد برهة أمسكت يدٌ برأس دكرور وشدت شعره بعنف كاد أن يكسر رقبته، وشعر بأنفاسٍ رطبة في أذنه، وتمتم صاحبها بكلمات كثيرة أنهاها بكلمة "دكرور"، التي قالها كأنه يبصقها، ودكرور يصرّ على أسنانه ويغلق عينيه من شدة الألم، ولما فتحها وجد سكينًا مصوبًا قرب عينه لكن لم يتبين حامله، وتُرِكَت رأسه فارتطمت بالأرض ثانيًا، ثم قام حامل السكين وكلّم عمار ثم تركهم وذهب، بعدها أخبر عمار:
- سأفك قيدك الآن، لكن إذا حاولت أن تؤذي أحدنا ثانيًا ستندم على ذلك، إننا لا نتهاون في ذلك، هل فهمتَ؟ والآن أثبت...
قطع الحبل بين القدمين واليدين أولًا، فوجد دكرور عضلات ساقه وبطنه متيبسة ثم أخذت ترتخي بألم حلو، بعدها فك اليدين ثم القدمين فاعتدل دكرور في مضطجعه، ومطّ جسمه كله حتى كادت أن تنفصل أوصاله، ونام على ظهره محتضنًا صدره بذراعيه يراقب عروق النور التي تريح عينه، لا يفكر في شيء ولا يبالي بشيء ولا بعمار عندما عاد يقول:
- هذه هي القاعدة الأولى لا تتعرض لأحدنا، لقد سامحناك هذه المرة فقط، ثانيًا حين يتم استدعائنا للسطح لا تتقاعس، يمكنك فعل ذلك بالطبع لكننا لن نسمح لك، ثالثًا لا تحاول الهرب إذ إنك ستنجح وحين تفعل؛ ستموت.. صدقني إن أطلس لا يغفر الفرار، أول وآخر واحد حاول الهرب كان منذ أيام قليلة وكان مصيره الموت
نظر دكرور بعصبية إلى عمار، ونهض جالسًا يلتفت بحثًا عن الجثة التي كانت ترقد بجانبه أول مرة يستيقظ هنا، فوجدها بالقرب منهم على حالها، وأشار إليها بعصبية فقال عمار:
- أه! لا.. ليس ما تظن، ليس ذلك هو
عاد دكرور يتمدّد على ظهره وظل راقدًا حتى كاد أن ينام، وانتفض بسرعة لما سمع صوت الصافرة مجددًا، يريد أن ينتشل نفسه من الحلم إن كان يحلم، لكن سرعان ما شعر بخيبة الأمل حين علم أنه ليس نائمًا.
كاد أن ينساه، أو ربما أراد أن ينساه، لكن هناك جزء صغير بداخله لا ينسى ويصدق أنه في بطن حوت حقًا، وكل مرة يتفاجأ أكثر من قبلها، وهذه المرة كانت الأغنية على ثلاث صافرات قِصار، هبّ عمار واقفًا فور سماعها وزعق أحدهم بكلمة، فأمسك عمار بذراع دكرور يحثه على الوقوف وقال بعصبية:
- استعد!! سنصعد إلى السطح الآن...
★★★
اضطرب المكان بعد أن كان ساكنًا وتوتّرت حركة الرجال وعَلَت أصواتهم بعد أن كانوا هادئين، فهرع عمار ينضم إليهم في استعدادهم، تاركًا دكرور يقف وحده في بقعة شبه مظلمة عند طرف المكان الواسع بجانب الحائط المستقيم.
وفي غضون دقيقة واحدة كان جميعهم مسلحين بالحِراب، وبعضهم كان يحمل سيوفًا، ومافي الضخم كان يحمل بلطة كبيرة بنصلين على الجانبين تليق بحجمه، هذا بالإضافة إلى مسدس أو بندقية لكل واحد منهم.
رأى دكرور ذلك فتذكر ما قال عمار عمّا يفعلون حين يخرجون كأنه لم ينتبه للكلام إلا الآن، لكن إذا كان القتل هو ما يستعدون لارتكابه؛ فلم يبدُ عليهم ذلك، بل كانوا كأنهم ذاهبين للصيد مثلًا.
ثم حين عادت الصافرات تتكرر أسرعوا ناحية الجدار القائم ومنهم اثنان يحملان الجثة، ثم توقف بوهاردي ليواجههم وتكلم فيما بدا ككلمات تشجيع ورجاله يؤمنون على كلامه استحسانًا رافعين أسلحتهم مع صيحاتهم، ودكرور يقف عند الجهة الأخرى بحيث إذا نظر أحدهم فوقه لرآه، ويكاد لا يتنفس لكي لا يلحظه أحد.
ولما أنهى بوهاردي خطبته التشجيعية التي لم تطُل كثيرًا، وأراد أن يستدير؛ استوقفته رؤية دكرور واقفًا بثبات يحدق فيهم، فأشار إليه بحربته ووجه كلامه إلى عمار، فسار عمار إليه وهو ينظر إليه شزرًا، وأمسكه من ذراعه وسأله:
- مستعد؟
هز دكرور رأسه نفيًا بعصبية، فتناول عمار حربته من وراء ظهره ودفعها إليه وقال:
- أنت الآن مستعد
ثم أومأ إلى بوهاردي برأسه وبادله بوهاردي الإماءة، ثم قال عمار:
- والآن اسمع...
بعدها فقد دكرور حاسة السمع هي الأخرى، حين رأى بوهاردي يدخل يده في الحائط ويُسحَب إلى داخله، ويتبعه الاثنان حاملا الجثة، ثم باقي الرجال الواحد تلو الآخر، وعمار لا زال يكلمه فأدركه وهو يقول:
- ...سيقتلك إن فعلتَ.. بل سأقتلك أنا بنفسي إن فعلتَ، اتبعني وافعل مثلي وافعل ما أقوله لك وسيكون الأمر على ما يرام...
ثم أشار إلى أحد الرجال الخارجين وأردف:
- أترى كيف يفعلها؟.. ضع يدك أولًا ثم ادفع بجسدك إلى الداخل، واجعل رأس حربتك لأسفل
وأخيرًا تذكر دكرور أن بإمكانه الكلام فهمس إلى عمار:
- ماذا تريدني أن أفعل؟
- تبًا! ألم تسمع كلمة مما قلتُ؟
- لن أقتل أحدًا
- حقًا!.. وكيف جئت إلى هنا إذًا؟
قالها عمار وهو يشير بعينه إلى ملابس دكرور الدامية، فرمقه دكرور بنظرة باردة فأردف:
- حسنًا لا تخبرني، فقط هيّا بنا
ثم جاء الفتى النحيل وأعطى عمار حربة أخرى فأشار دكرور إليه وهمس إلى عمار:
- ماذا عنه؟
- سامبار لا يمكنه الخروج...
ثم لاحظ دكرور أن المكان قد أصبح خاليًا إلا منهم الآن، فطرأت في رأسه فكرة أن يقتلهم، لكن تلاشت تلك الفكرة حين أمسكه عمار من كتفه ونظر في عينه وقال:
- لا تخف! سأكون بجانبك طوال الوقت، لن أجعلك تستخدم تلك الحربة هذه المرة، وأعدك أني سأخبركَ بكل شيء.. اتفقنا!
ثم ابتسم وذهب حيث كان يُشفَط الرجال، وأشار إلى شِقًّا طوليًّا مظلمًا كان أوسع من شقوق النور، وقال:
- أنت أولًا، خذ نفسًا عميقًا قدر استطاعتك، هيا! سأكون وراءك مباشرةً
وربّت سامبار على كتفه وتمتم بكلمات، ثم وضع دكرور يده يتحسس الشق الكبير وفكر "ربما لن تأتي فرصة أخرى للخروج من هنا"، فعزم أمره ودفع بنفسه داخل الشق، فوجده متحجرًا مثل معظم المكان عند حافته فقط ويصبح أضيق وألين وتصبح الرائحة أسوأ؛ كلما تقدم أكثر، وشعر بماء يتدفق من مكانٍ فتذكر أنه سيصعد إلى البحر الآن وفكر "تبًا! لم آخذ نفسًا"، ثم حاول أن يرجع لكنه وجد عمار وراءه مباشرةً يدفعه هو الآخر للخارج، وذُعِر حين أدرك أن البحر هو الطريق الوحيد الآن.
خرج دكرور من ذلك النفق إلى الماء والظلام يعم المكان لكن لمح شمس تلوح من فوقه قبل أن يغلق عينيه، وشعر بعمار يدفعه لأعلى وشعر بالمياه تبرد قليلًا، ثم سبح بحركات خرقاء نحو السطح، ورئتاه فارغتان لا يجرؤ على مَلئِهما بالماء.
لم يكن السطح بعيدًا إذ إنه سرعان ما وجد نفسه يتنفس الهواء، فشهق فأصدر صوتًا لم يكن يعلم أنه يملكه، وظل في مكانه يضرب المياه ويركل البحر محدثًا ضوضاء عالية، ثم لاحظ سفينة بجانبه مباشرةً فحاول أن يسبح إليها قبل أن يجذبه عمار ويسبح به نحو باقي الرجال الذين يتعلقون بالسفينة من أسفلها، فتعلق دكرور بشبكة كبيرة ملقاة على جانب السفينة مثل البقية، لا يفكر في شيء سوى أنه لا يجب أن يفلت الشبكة، وكان على استعداد أن يكمل بقية حياته هكذا، لا يريد أن يصعد إلى السفينة ولا يريد أن يعود إلى البحر ثانيًا.
وتعجب حين وجدهم خمسة فقط، وبعد انتظار لم يطُل أُلقيَ شيئًا في الماء أمامهم ربما كان حجرًا صغيرًا، وبهدوء شديد بدأ الرجال يتسلقون الشبكة إلى متن السفينة، فقال عمار وهو يصعد:
- لا يجب أن تبقى هنا، تعالَ معي ولا... أين حربتك؟
فتركه عمار وأكمل طريقه وهو يتذمر.
ثم ما لبث دكرور أن سمع خطوات مسرعة، تبعتها شهقات متحشرجة، تبعها ارتطامًا مكتومًا، تبعه صيحات، تبعتها صرخات، تبعتها جثة تلقى أمامه في البحر خضبت المياه بالأحمر في ثواني.
ثم ضُرِب جرسًا فعلت الصيحات أكثر، وعلا وقع الأقدام على الخشب، ثم رأى أحدًا يَلقِي بنفسه من مقدمة السفينة، وأخذ يسبح مبتعدًا عنها إلى لا مكان، ولم يبتعد كثيرًا حتى طارت حربة من السفينة لتستقر في ظهره أسكنت حركته من فورها، ثم سمع بعدها طلقات نارية مدوية مع صيحات معركة حقيقية.
شعر دكرور بالدوار من شدة أنفاسه ومن تسارع الأفكار في عقله، فكر أنه يجب أن يصعد ليوقفهم، لكن ذهبت الفكرة حين رأى الجثة التي تطفو أمامه، ثم فكر أن يسبح ويهرب بعيدًا، لكن هذه الفكرة أيضًا ذهبت حين رأى الجثة البعيدة والحربة الراشقة فيها، ثم فكر أن يصعد لينضم إليهم وربما يساعدهم، أو فقط ليشاهد ما يحدث.
فاستقر أمره على أن يصعد وليحدث ما يحدث، وما أن وضع أول قدم على الشبكة لمح شيئًا في الماء بجانب الجثة العائمة تبدو كصخرة بيضاء كبيرة، دقق النظر فيها فرآها تنفلق نصفين، فتوقف قلبه وعقله وتيبّس كل جسده، حين أدرك ماهية هذه الصخرة، إنه هو، الحوت، إنه "أطلس!".
★★★
فصلًا آخر مثيرًا لكن لا يفسر أي شيء، حملتُ الكتاب تحت ذراعي وخرجت من غرفتي، واختلست النظر إلى الغرف الأخرى فوجدتها خالية لكن يبدو أن هناك من كان يسكنها، كنت أعلم أن ذاك الرجل الذي قابلته أول ما وصلت، والذي نسيتُ اسمه؛ يعيش هنا، لكن يبدو الأمر أن هناك أكثر من ثلاثة فقط يعيشون هنا.
نزلتُ لأجد دكرور يجلس كما كان البارحة، وسام بجانبه يجلس أمام حاسوبه ولا يزال يعتمر طاقيته كما كان البارحة، فحيوني بابتسامات وقال سام وهو يقدم لي القهوة:
- لم نرِد إقلاقك
- أه أنا لم أنم هكذا من قبل
رأى دكرور الكتاب في يدي فقال بمرح:
- كم قرأت؟
- فصلين
- فصلين فقط؟! ما رأيك إذًا؟
- أعذرني يا سيد دكرور! لكنني لم أصدقكَ، ولا زلت لا أصدقكَ، فلا تنتظر مني أن أصدق أن تلك القصة حقيقية
ضحك دكرور وسام، وقال سام:
- لك الحق في ذلك يا إدي، أنا نفسي لم أكن أصدقه لفترة
وزاد ضحكهم، ثم قال دكرور:
- وما رأيك فيها كقصة خيالية إذًا؟
- لا يمكنني الحكم من فصلين، لكنها لا بأس بها حتى الآن
- حسنًا خذ وقتكَ يا إدي، ولا تستعجل
ثم أردت أن أكمل القراء لكن قلت:
- هل من أحد آخر يعيش هنا؟ غيركم... صحيح لقد رأيت رجلًا آخر عندما وصلت هنا البارحة، كان اسمه... يوزي! نعم!
بدت عليهما الحيرة كأنهما لم يعلما بشأن ذلك الرجل، ورَدّ سام:
- أه يوزي! إنه صديقنا.. ويعيش معنا بعض الأصدقاء، لكنهم ليسوا هنا الآن
ثم قلت لدكرور:
- حدثني عن عملك يا سيد دكرور، ولمَ أنتَ مهووس بتلك الحيتان هكذا؟
- لماذا أحب الحيتان؟!! ألن تحب شيئًا لطالما قاتلتَ من أجله؟
- وكيف تجعلها تفعل ذلك؟ هل تروّضهم مثلًا؟
قلتها وأنا أرفع يدي لأحاكي ما فعلنا على المركب وخروج الحيتان من الماء، فضحك دكرور وسام فشعرت بالحمق لذلك، وفكرت أن أسأله إن كان أطلس هو من يفعل ذلك من تحت الماء، لكن لا يبدو ذلك منطقيًّا، كما سيجعلني أبدو أكثر حمقًا ورَدّ دكرور:
- نعم، يمكنك القول أني أروّضهم
وأضاف سام:
- لطالما كان هناك حيتان أكثر إنسانية من البشر يا إدي!.. تذكر ذلك!
ثم تركتهم وخرجت إلى الشرفة التي تطل على البحر، وأكملت القراءة...